Admin Admin
المساهمات : 105 تاريخ التسجيل : 06/03/2009
| موضوع: الأم ـ بقلم : المطران بطرس المعلم السبت مارس 14, 2009 11:19 pm | |
|
ثلاثةَ أسابيع قبل عيدها، أردتُ أن أعايدها. لماذا؟ تصفّحتُ اليومَ الأجندة، فلفتَ انتباهي أن عيد الأم (21 آذار = بدء الربيع) يقع السنةَ يومَ الجمعة العظيم، لتقدُّمِ عيد الفصح كثيرا هذه السنة بحسب التقويم "الغربي"، فخشيتُ أن يُطمَس ذكرُها بسبب احتفالات الأسبوع العظيم وعيد الفصح. الأم ! وهل أعزّ منها على الأرض؟ هي أول من يقع عليه نظر الطفل بعد ولادته، بل اول من يعلق به نظره وقلبه حين رضاعته الحنان مع الحليب. هي اول من يتمتم اسمَها لاثغًا، ويظلّ يردّده ويناديه يافعا وشابا وكهلا، في نشوةِ دهَشٍ او المٍ او فرح، حتى بعد ان تكون هي قد فارقت هذه الدنيا الى العالم الآخر: "يا أماه = يَمّاه". *** كيف عرفنا امهات الماضي؟ لم يكنَّ عموما امهات الولد او الاثنين فقط، بل الخمسة والسبعة، ولا يندر العشرة وأكثر. نهارهنّ يبدأ منتصف الليل او بعده بقليل، وينتهي عنده اوقبله بقليل. طبعا هذا السهر لم يكن للتلفزيون غير المعروف حينذاك، ولا للراديو الذي بدأت أخباراختراعه فقط تصل من بعيد الى البلاد. الوقت كله عطاء بلا حساب، وتضحية بلا حدود، ونسيان ذاتٍ مطلق، في خدمة أسرة متماسكة، الأمّ هي رباطها الأول والأخير: "الأم تلمّ". جميع خدمات البيت لأسرة كبيرة، من تهيئة طعام، واستقاء ماء، وخياطة ثياب، وتأمين غسيل، ووو... كل ذلك في غياب الغاز والكهرباء وجميع وسائل الخدمة البيتية الحديثة...اين وكيف كانت تجد الوقت؟ وليس هذا كل شيء. فصلاتها وصيامها وواجباتها الدينية مؤمنة قبل كل شيء، لا لنفسها فقط، بل لأولادها ايضا، تلقّنهم اياها بالكلام والمثل والممارسة، وتخلق الوقت لتقصّ عليهم الحكايات الشيقة، فتربّيهم بواسطتها على الصدق والاستقامة، وحب المسامحة، والصبر على الإساءة، ومساعدة القريب ايّا كان، وترسلهم يحملون سرا بعض عون مادي الى محتاج، مع التوصية بأن لا تعرف الشمال ما تصنع اليمين...ومن اين تستمد الطاقة لكل ذلك؟ انه الحب، وهي بجملتها كتلة حب متأجج، ونهر حب متدفق. ذلك هو سرّ طاقتها. ألم يقل الشاعر الفرنسي الكبير فكتور هوغو "حب الأم! من ينساه؟ لكل واحد منه نصيب، ويبقى كاملا لكل واحد"؟ *** في مثل هذه المرأة الأم يقول الكتاب:" المرأة الفاضلة من يجدها؟ قيمتها فوق اللآلئ...تقوم قبل طلوع الفجر، تهيّئ لأهل بيتها طعاما...سراجها لا ينطفئ في الليل. تلقي يديها على المكب، وتمسك بكفّيها المغزل. تبسط كفّيها الى المسكين، وتمدّ يديها الى البائس. لا تخاف على أهل بيتها من الثلج، فكل واحد يلبس حلّتين...تراقب سلوك أهل بيتها، ولا تأكل خبز البطالة. يقوم أبناؤها فيباركونها وزوجها فيمدحها" (أمتال 31: 10- 28). *** الأيام تغيّرت، وظروف الحياة تبدلت. عدد الأولاد في الأسرة تقلص، لأسباب تبدو مقبولة عند البعض، وأقل قبولا عند غيرهم. عمل المرأة والأم في المجتمع ينتشر عندنا بسرعة، ومؤيّدوه كثيرون، وكذلك المناوئون أو المتحفظون. اما نحن فنتفهم هذا الواقع المعقَّد كله. ولأمهات اليوم، كما لأمهاتهنّ وجدّاتهنّ في الماضي، كل احترام وتقدير. ولكن قد يبدو من المفيد، بل الضروري، لفت النظر الى ما يظهر أحيانا لدى البعض من تطرّف او مغالاة في المواقف، قد لا يدركون عواقبها. *** حَجْرُ المرأة في البيت، وقصرُ مهامها على أن تكون "ماكنة تفريخ"، كما قرأتُ هذا الأسبوع في عنوان مقال في إحدى الصحف، هو في نظرنا إهانة لكرامتها، وانتقاصٌ لحقٍّ لها في بناء المجتمع، وهي في الأساس نصفه. وبقطع النظر عن اعتبارات مادية واقتصادية، قد تفرض عليها أحيانا العمل الخارجي فرْضا، لتأمين حياة للأسرة كريمة، فنموّها الشخصي، واكتمال نضجها الإنساني، قد يقتضي منها أحيانا الاندماج في هذا المجتمع، لتحقيق المقومات الأساسية لكيانها وهويتها المميزة. *** ومن هنا أهمية الوعي لهذه الهوية المميزة، والتعمق في اكتناه مقوِّماتها، وفي طليعة هذه المقوِّمات البُعدُ الأُمومي. فالأمومة عند المرأة ليست تَرَفًا مضافا، بل غريزة أساسية عميقة، بها وبما تستتبع من واجبات، ينمو وينضج ويكتمل كيانها الإنساني. ومن ثم لا يجوز لأي اهتمام آخر، بما فيه العمل خارج البيت، المسّ بهذا البُعد الأساسي، او اعاقة التحقيق لمقتضياته الجوهرية، لأنه بذلك يكون انتقاصا لبُعدٍ أساسي في هوية المرأة، ولما يستتبعه من واجبات. *** فالأمومة وما تتضمن من حب وحنان، وبذل وتضحية، وما تستتبع من واجب التربية، هي أمور لا يمكن أن تُجَيَّر أو تؤجَّر، او تُستأجَر أو تباع، لا لسرلنكية او فيليبينية او اية خادمة غريبة. من حسن حظنا ان الأقارب عندنا لا يزالون يتعاونون كثيرا في ما بينهم. وهنيئا لأم لا تزال تجد لأطفالها جَدّة أو عمة او خالة صالحة، تكل اليها أمرهم أن هي اضطرت الى العمل خارج البيت، علما بأن جميع هؤلاء لسن الأم في النهاية. ولكن ماذا عن اللواتي يعطين الأولية للعمل الخارجي، على حساب البيت، ولا يؤمّنّ للأولاد السهر اللازم والتربية الصالحة؟ ان هبةَ او كاريزما الأمومة، هي عطية بل نعمة شخصية فوق كل قياس، لا يمكن استبدالها ولا مقايضتها بأي ثمن. *** خشيتُ في مطلع كلامي أن يطمس يوم الجمعة العظيم ذكر المرأة والأمومة والبنوة ( التي يقيم لها العالم أعيادًا في 8 و21 و22 آذار). ولكني الآن أستدرك، إذ أجدها مجتمعة معا في يوم الجمعة العظيم بالذات، في ابهى صورة لأروع رمزللحب والعطاء، الصليب: "فلما رأى يسوع أمه، وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لأمه: أيتها المرأة، هذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هذه أمّك" (يوحنا 19: 26-27). ففي عيد المرأة والأمومة والبنوة، هنيئا لكل من له بعد اليوم أمّان: أمه والعذراء مريم.
| |
|