ذهبت للمقابر لزيارة والدي عليه رحمة الله. وكانت هذه المقابر في إحدى المدن الجديدة، وبذلك فهي تمتاز عن تلك الواقعة في العاصمة، بكونها جديدة لم تستقبل ذلك النوع من " سدنة مشاعر الزيارة البدعية "، أي أولئك النفر الذين يوجهون زيارة المقابر لكي تصبح ذات طقوس ومراسم خاصة تبعد تماما عن الدين. ولكن للأسف فمع تزايد أعداد الموتى المقبورين في هذه المقابر التابعة للمدن الجديدة، انفتحت شهية أولئك السدنة، فتدفقوا بأعداد كبيرة إلى تلك المقابر لكي يمارسوا فيها شعائرهم البدعية!!
ولأولئك السدنة طقوس معينة ومحددة لا يحيدون عنها. فمنها: بيع الخوص والزهور للزائرين لوضعها على قبور المتوفين. ومنها: قراءة القرآن وخاصة سورتي يس والملك في القبور أثناء الزيارة. وبمجرد أن يشاهدك هؤلاء الناس، يسألونك عن " الرحمة " الخاصة بالمتوفى، أي الفطائر والفاكهة التي يريدون منك توزيعها عليهم.
وقد آليت على نفسي منذ وفاة والدي رحمه الله تعالى على زيارة قبره. وندأب منذ ذلك الوقت على الدعاء له أثناء الزيارة. ومنذ وفود هؤلاء السدنة الجدد إلى تلك المقابر، ونحن نطلب منهم – وفي بعض الأحيان نرجوهم – أن يستبدلوا قراءة القرآن بالدعاء للمتوفى.
ولكن نظرا لجهل هؤلاء " الفقهاء "، فإنهم يرددون أدعية غير تلك المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأحوال. وفي إحدى المرات فوجئت بأحدهم، وقد أخذ في الاسترسال في الدعاء واندمج فيه، فوجئت به يقول: " اللهم شفّع عيد الأم فيه "!!
ما هي أهم المضار التي تنتج عن انتشار البدع في مجتمعنا؟ وما هي أهم مظاهر البدع والخرافات المتعلقة بالقرآن الكريم على وجه الخصوص؟ وكيف تفشت البدع في مجتمعاتنا بهذه الصورة؟ وما هي – وهو الأهم في هذا الصدد – سبل العلاج والقضاء على هذه الظواهر الخاطئة؟ نحاول تأصيل كل ذلك فيما يلي، على نرجئ الحديث عن أسباب تفشي البدع في مجتمعاتنا وسبل العلاج إلى مقال آخر إن شاء الله وقدّر.
أهم المضار التي تنتج عن انتشار البدع في مجتمعنا:
ليت أن مضار الابتداع تقف على المضار التي تقع على عاتق المبتدع لا تتعداه إلى غيره. ولكن للأسف فإن هذه الآثار تتعدد:
فمنها ما يصيبه هو: كاغتصاب حق التشريع الذي لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى. وذلك مثل قوله تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ] التوبة: 31 [. فقد روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. قال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم. وهذا بعينه ما يقوم به المبتدع من تحليل شيء جديد وإدخاله للعمل به كشعيرة من شعائر الدين، من غير سند شرعي من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا قال الإمام مالك: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ ] المائدة: 3 [. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا.
ولهذا كان المبتدع في هذه الناحية واضعا نفسه موضع المغتصب لحق التشريع الذي لا يكون إلا لله، وواضعا نفسه موضع من يرى أن الحدود التي رسمها الله ليتقرب بها العباد إليه إما ناقصة وهو بابتداعه يستدرك ذلك النقص، وإما أن محمدا صلى الله عليه وسلم قصّر – حاشا لله – في التبليغ وحجز عن أمته بعض ما يقربها إلى الله.
ومنها ما يصيب أتباعه في العمل بالبدعة: وذلك بجعل الناس تعتقد أن ما ليس في الدين هو دين يجب عمله، وهو بذلك يشبه التلبيس الذي وقع فيه أهل الكتاب. قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ] آل عمران: 71 [.
ومنها ما يصيب الدين نفسه: فما قامت بدعة إلا وماتت في مقابلها سنة، ذلك أن من السنة ترك البدعة، فلا يمكن تعايش إحداهما جنبا إلى جنب مع الأخرى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن. وبذلك تخفى كثير من أحكام الدين وتندرس، وتتشوه صورة حاملي هذا الدين، ويوصف بأنه دين دجل وأتباعه متخلفون.
ومنها ما يصيب الأمة التي وقع فيها الابتداع في دينها: وهو إلقاء العداوة والبغضاء في النفوس، لأن صاحب كل بدعة يحاول هو وأتباعه الانتصار لبدعتهم، وأن تكون بدعتهم هي الرائجة والسائدة على البدع الأخرى، فتكثر الفُرقة بين أفراد الأمة، ويحل الخصام والشحناء محل الحب والصفاء.
وليس من شك أن الأمر يعظم إذا كانت هذه البدعة متعلقة بالقرآن الكريم، كتاب الأمة الذي يحمل شرفها وعزها. قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ] الأنبياء: 10 [، أي فيه شرفكم وعزكم.
وليس من شك في أن القرآن أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لغرض هو أسمى الأغراض وأنبلها، وهو هداية الناس إلى الحق عن طريقه، وإخراجهم مما هم فيه من الظلمات إلى النور. بيد أن المسلمين أخذوا بالانحراف بالقرآن عن أغراضه التي أُنزل من أجلها شيئا فشيئا، حتى قاموا باستخدامه لأغراض لا تمت إليه بصلة، ولا ينبغي له أن يستخدم في ذلك. ففشت عدة بدع أو منكرات تتعلق بتقديسه من جهتها، كان من أهمها ما يلي:
أهم مظاهر البدع والخرافات المتعلقة بالقرآن الكريم
1- وضع المصاحف في صالونات البيوت وفي السيارات لحفظها من الحسد والحوادث، وتعليق آيات منه في براويز كبيرة على الحوائط أو في تمائم صغيرة توضع في السلاسل لجلب البركة أو لاتقاء العين.
2- اتخاذ حِلق يقوم فيها كبار مشاهير القراء بتلاوة القرآن مع تمايل المستمعين من الطرب وتصاعد الآهات منهم. وهم يشبهون في ذلك بما يحدث في حفلات الغناء، لدرجة أن أحد التافهين فكر في أن يضع الألحان للتغني بالقرآن، مؤكدا أن ألفاظ القرآن لها " جرس رائع " يجب استغلاله في " إطراب العامة "!!!
3- إقامة سرادقات للعزاء لمن توفى، تكون تلاوة القرآن هي المادة الرئيسية فيها. فلا تكاد تسمع القرآن في مكان حتى تسأل عمن توفى!!! وهكذا يصبح القرآن الذي هو مصدر حياة الأمة، رمزا للموت فيها. وجعلوا من فاتحة الكتاب - التي هي دستور حياة المسلمين، والتي كان حرص الشارع على قراءتها سبع عشرة مرة على الأقل يوميا في كل ركعة من الصلوات المفروضة - وسيلة لجلب الرحمة على الأموات، فلا تذكر ميتا حتى يقال " اقرءوا له الفاتحة "!!!
4- قيام الدجالين باستخدام القرآن – الذي هو علاج الروح أساسا – للتداوي به من أمراض الأبدان بطريقة خاطئة. ويستخدمون لذلك وسائل عجيبة يدجلون بها على العامة والبسطاء لإيهامهم بصحة ما يقومون به. فيكتبون الآيات القرآنية في أوراق، ثم يضعونها في الماء، ويأمرون المرضى بشرب هذا الماء! أو يكتبون هذه الآيات ثم يضعونها في قطع صغيرة من القماش على هيئة أحجبة يأمرون بوضعها في أماكن معينة من جسم المرضى! لو يكتبونها في أوراق معينة ثم يحرقونها ويبخرون بها المرضى عدة مرات!!!
5- التسول بالقرآن، وذلك بأن يجلس أحد الشحاذين في ملتقى الطرقات، أو في مواقف المواصلات، أو على أبواب المساجد والأضرحة، أو يعترض به المارة في الطرقات والراكبين في وسائل المواصلات، وهو يتلو القرآن ويبسط يديه للمارة يستدر عاطفة الإيمان لديهم، ويطلب منهم القروش القليلة لقاء هذه القراءة التي غالبا ما تكون " سيئة " وبصوت " مزعج " ينفران الناس من القرآن!!!
6- استمطار الرحمة بقراءة القرآن على أرواح الموتى. فترى الفقراء من حملة القرآن يتسابقون إلى المقابر، ويندسون بين أفواج الزائرين والزائرات، يساومونهم على مقدار ما يقرءون، ومقدار ما يأخذون ثمنا لهذه القراءة!!! وليت الأمر أن تكون التلاوة بصوت حسن يشجي النفس، وإنما هي " هذرمة " تخل بأحكام التلاوة وتؤدي بالنفس إلى التضرر والاشمئزاز، يضاف إلى ذلك ما يتركه سوء حال القائمين بالتلاوة من آثار سيئة للغاية في النفوس.
وهذه الحالة الأخيرة هي التي وصلت بنا إلى الحالة التي بدأت الحديث عنها في صدر هذا المقال. إن الجهل المطبق الذي يعيش فيه هؤلاء الدجالون الذين لا يعرفون لكتاب الله حرمة ولا يعلمون قدره، ويسعون فقط للارتزاق به ومن جراء تلاوته بأصواتهم القبيحة، فإذا ما طلبت من أحدهم التخلي عن بدعته والعمل بالشرع بأن يدعو للمتوفى أفلس ولم يعرف دعاء مأثورا يردده في هذه المناسبة، بل أخذ يدعو بما يراه في التليفزيون وبما يقرأه في الجرائد. إن كل هذا هو الذي أوصلنا إلى أن نرى من يدعو فيقول: " اللهم شفّع عيد الأم فيه "!!
وهو بدوره الذي أوصلنا إلى مهانة تدنيس كتاب الله على يد الأمريكان. ذلك أنهم علموا بجهلنا تجاه كتابنا واستخدامنا له في أغراض غير التي أُنزل من أجلها، فقاموا باستباحة حرمته وهم يعلمون إننا لن نحرك ساكنا ولن نفعل شيئا!! إننا لو أردنا أن نمنع الأمريكان من عبثهم بالقرآن، فعلينا أولا أن نمنع تفشي الجهالات المتعلقة به بيننا أولا. وفي هذه الحالة فقط، يمكن لنا أن نرد اعتبار أنفسنا أمام الأمم الأخرى